فصل: (سورة آل عمران: الآيات 93- 94)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» قَدْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَزُولُوا عَنْ الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِقَلْبِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي تَقِيَّةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ قوله: إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مَعْنَاهُ أنه لَا يُمْكِنُهُ إزَالَتُهُ بِالْقَوْلِ فَأَبَاحَ لَهُ السُّكُوتَ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ}: مُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ مَا قُبِلَ مِنْك، فَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْك فَعَلَيْك نَفْسُك.
وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أيضا الَّذِي قَدَّمْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك نَفْسَك وَدَعْ عَنْك الْعَوَامَّ» يَعْنِي وَالله أَعْلَمُ: إذَا لَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَآرَاءَهُمْ فَأَنْتَ فِي سَعَةٍ مِنْ تَرْكِهِمْ وَعَلَيْك نَفْسَك وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامّ، وَأَبَاحَ تَرْكَ النَّكِيرِ بِالْقَوْلِ فِيمَنْ هَذِهِ حَالُهُ.
وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ: قَدْ أَعْيَانِي أَنْ أَعْلَمَ مَا فُعِلَ بِمَنْ أَمْسَكَ عَنْ الْوَعْظِ مِنْ أَصْحَابِ السَّبْتِ، فَقُلْت لَهُ: أَنَا أُعَرِّفُك ذَلِكَ، اقْرَأْ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ قوله تعالى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ} قَالَ: فَقَالَ لِي: أَصَبْت وَكَسَانِي حُلَّةً.
فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الله أَهْلَكَ مَنْ عَمِلَ السُّوءَ وَمَنْ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ، فَجَعَلَ الْمُمْسِكِينَ عَنْ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِمَنْزِلَةِ فَاعِلِيهِ فِي الْعَذَابِ.
وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا رَاضِينَ بِأَعْمَالِهِمْ غَيْرَ مُنْكِرِينَ لَهَا بِقُلُوبِهِمْ، وَقَدْ نَسَبَ الله تعالى قَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ إلَى مَنْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا مُتَوَالِينَ لِأَسْلَافِهِمْ الْقَاتِلِينَ لِأَنْبِيَائِهِمْ، بِقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِاَلَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَا قَتَلْتُمُوهُمْ} وَبِقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ الله مِنْ قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَأَضَافَ الْقَتْلَ إلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرُوهُ، وَلَمْ يَقْتُلُوهُ؛ إذْ كَانُوا رَاضِينَ بِأَفْعَالِ الْقَاتِلِينَ؛ فَكَذَلِكَ أَلْحَقَ الله تعالى مَنْ لَمْ يَنْهَ عَنْ السُّوءِ مِنْ أَصْحَابِ السَّبْتِ بِفَاعِلِيهِ؛ إذْ كَانُوا بِهِ رَاضِينَ وَلَهُمْ عَلَيْهِ مُتَوَالِينَ.
فَإِذَا كَانَ مُنْكِرًا لِلْمُنْكَرِ بِقَلْبِهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي وَعِيدِ فَاعِلِيهِ، بَلْ هُوَ مِمَّنْ قَالَ الله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} وَحَدَّثَنَا مَكْرَمُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَاضِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَطِيَّةَ الْكُوفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: لَمَّا بَلَغَ أَبَا حَنِيفَةَ قَتْلُ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغَ بَكَى حَتَّى ظَنَنَّا أنه سَيَمُوتُ، فَخَلَوْت بِهِ فَقَالَ: كَانَ وَالله رَجُلًا عَاقِلًا، وَلَقَدْ كُنْت أَخَافُ عَلَيْهِ هَذَا الأمر؛ قُلْت: وَكَيْفَ كَانَ سَبَبُهُ؟ قَالَ: كَانَ يَقْدُمُ وَيَسْأَلُنِي، وَكَانَ شَدِيدَ الْبَذْلِ لِنَفْسِهِ فِي طَاعَةِ الله وَكَانَ شَدِيدَ الْوَرَعِ، كُنْت رُبَّمَا قَدَّمْت إلَيْهِ الشَّيْءَ فَيَسْأَلُنِي عَنْهُ، وَلَا يَرْضَاهُ، وَلَا يَذُوقُهُ وَرُبَّمَا رَضِيَهُ فَأَكْلَهُ، فَسَأَلَنِي عَنْ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، إلَى أَنْ اتَّفَقْنَا عَلَى أنه فَرِيضَةٌ مِنْ الله تعالى فَقَالَ لِي: مُدَّ يَدَك حَتَّى أُبَايِعَك فَأَظْلَمَتْ الدُّنْيَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ؛ فَقُلْت: وَلِمَ؟ قَالَ: دَعَانِي إلَى حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الله فَامْتَنَعْت عَلَيْهِ وَقُلْت لَهُ إنْ قَامَ بِهِ رَجُلٌ وَحْدَهُ قُتِلَ، وَلَمْ يَصْلُحْ لِلنَّاسِ أَمْرٌ، وَلَكِنْ إنْ وَجَدَ عَلَيْهِ أَعْوَانًا صَالِحِينَ وَرَجُلًا يَرْأَسُ عَلَيْهِمْ مَأْمُونًا عَلَى دَيْنِ الله لَا يَحُولُ.
قَالَ: وَكَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ كُلَّمَا قَدِمَ عَلَى تَقَاضِي الْغَرِيمِ الْمُلِحِّ كُلَّمَا قَدِمَ عَلَيَّ تَقَاضَانِي، فَأَقُولُ لَهُ: هَذَا أَمْرٌ لَا يَصْلُحُ بِوَاحِدٍ مَا أَطَاقَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ حَتَّى عَقَدَتْ عَلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ، وَهَذِهِ فَرِيضَةٌ لَيْسَتْ كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْفَرَائِضِ يَقُومُ بِهَا الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَهَذَا مَتَى أُمِرَ بِهِ الرَّجُلُ وَحْدَهُ أَشَاطَ بِدَمِهِ وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ فَأَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِينَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ.
وَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ لَمْ يَجْتَرِئْ غَيْرُهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ وَلَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ فَقَدْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِك وَنُقَدِّسُ لَك قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ثُمَّ خَرَجَ إلَى مَرْوَ حَيْثُ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ، فَكَلَّمَهُ بِكَلَامٍ غَلِيظٍ فَأَخْذَهُ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ فُقَهَاءُ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَعِبَادُهُمْ حَتَّى أَطْلَقُوهُ، ثُمَّ عَاوَدَهُ فَزَجْرَهُ، ثُمَّ عَاوَدَهُ ثُمَّ قَالَ: مَا أَجِدُ شَيْئًا أَقُومُ بِهِ لِلَّهِ تعالى أَفْضَلَ مِنْ جِهَادِك وَلَأُجَاهِدَنَّك بِلِسَانِي لَيْسَ لِي قُوَّةٌ بِيَدِي، وَلَكِنْ يَرَانِي الله، وَأَنَا أُبْغِضُك فِيهِ فَقَتْلَهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوبُ فَرْضِ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَبَيَّنَّا أنه فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، وَجَبَ أن لا يَخْتَلِفَ فِي لُزُومِ فَرْضِهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِنْسَانِ لِبَعْضِ الْفُرُوضِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ فُرُوضَ غَيْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَرْكَهُ لِلصَّلَاةِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ فَرْضَ الصَّوْمِ وَسَائِرَ الْعِبَادَاتِ؟ فَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ سَائِرَ الْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يَنْتَهِ عَنْ سَائِرِ الْمَنَاكِيرِ فَإِنَّ فَرْضَ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ غَيْرُ سَاقِطٍ عَنْهُ.
وَقَدْ رَوَى طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «اجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله أَرَأَيْت إنْ عَمِلْنَا بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْءٌ إلَّا عَمِلْنَاهُ وَانْتَهَيْنَا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْمُنْكَرِ إلَّا انْتَهَيْنَا عَنْهُ، أَيَسَعُنَا أن لا نَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا نَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلِّهِ، وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عَنْهُ كُلِّهِ»، فَأَجْرَى النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضَ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَجْرَى سَائِرِ الْفُرُوضِ فِي لُزُومِ الْقِيَامِ بِهِ مَعَ التَّقْصِيرِ فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ.
وَلَمْ يَدْفَعْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَفُقَهَائِهَا سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ وُجُوبَ ذَلِكَ إلَّا قَوْمٌ مِنْ الْحَشْوِ وَجُهَّالِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ وَالأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ بِالسِّلَاحِ، وَسَمُّوا الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فِتْنَةً إذَا اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى حَمْلِ السِّلَاحِ وَقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ، مَعَ مَا قَدْ سَمِعُوا فِيهِ مِنْ قَوْلِ الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ الله} وَمَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ مِنْ وُجُوبِ قِتَالِهَا بِالسَّيْفِ وَغَيْرِهِ.
وَزَعَمُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَأن لا يُنْكَرُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ الله وَإِنَّمَا يُنْكَرُ عَلَى غَيْرِ السُّلْطَانِ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْيَدِ بِغَيْرِ سِلَاحٍ، فَصَارُوا شَرًّا عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ أَعْدَائِهَا الْمُخَالِفِينَ لَهَا؛ لِأَنَّهُمْ أَقْعَدُوا النَّاسَ عَنْ قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ وَعَنْ الْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ الظُّلْمَ وَالْجَوْرَ.
حَتَّى أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَغَلُّبِ الْفُجَّارِ بَلْ الْمَجُوسِ، وَأَعْدَاءِ الإسلام حَتَّى ذَهَبَتْ الثُّغُورُ وَشَاعَ الظُّلْمُ وَخَرِبَتْ الْبِلَادُ وَذَهَبَ الدِّينُ وَالدُّنْيَا وَظَهَرَتْ الزَّنْدَقَةُ وَالْغُلُوُّ وَمَذَاهِبُ الثَّنَوِيَّةِ وَالْخُرَّمِيَّةِ وَالْمَزْدَكِيَّةِ وَاَلَّذِي جَلَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ الْجَائِرِ؛ وَالله الْمُسْتَعَانُ.
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا إسرائيل قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ».
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُصْعَبٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عُمَارَةَ قَالَ: سَمِعْت الْحَسَنَ بْنَ رَشِيدٍ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: أَنَا حَدَّثْت إبْرَاهِيمَ الصَّائِغَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ». اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة آل عمران: الآيات 93- 94]

{كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًا لِبَنِي إسرائيل إِلاَّ ما حَرَّمَ إسرائيل عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ}.
{كُلُّ الطَّعامِ} كل المطعومات أو كل أنواع الطعام. والحل مصدر. يقال: حل الشيء حلا كقولك: ذلت الدابة ذلا، وعزّ الرجل عزًا، وفي حديث عائشة رضى الله عنها: كنت أطيبه لحله وحرمه ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع. قال الله تعالى: {لا هنّ حلٌّ لهم}. والذي حرم إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام على نفسه لحوم الإبل وألبأنها وقيل العروق. كان به عرق النسا، فنذر إن شفى أن يحرّم على نفسه أحب الطعام إليه، وكان ذلك أحبه إليه فحرّمه.
وقيل: أشارت عليه الأطباء باجتنابه، ففعل ذلك بإذن من الله، فهو كتحريم الله ابتداء والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالا لبنى إسرائيل من قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه، وهو رد على اليهود وتكذيب لهم، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} إلى قوله تعالى: {عَذابًا أَلِيمًا} وفي قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما} إلى قوله: {ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ} وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم، فقالوا: لسنا بأوّل من حرّمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم، كانت محرّمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بنى إسرائيل وهلم جرا، إلى أن انتهى التحريم إلينا، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا. وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصدّ عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل، وما عدّد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حُرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم.
{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها} أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم مما هو ناطق به من أن تحريم ما حرّم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم، لا تحريم قديم كما يدعونه، فروى أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة وبهتوا وانقلبوا صاغرين، وفي ذلك الحجة البينة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه.
{فَمَنِ افْتَرى عَلَى الله الْكَذِبَ} بزعمه أن ذلك كان محرما على بنى إسرائيل قبل إنزال التوراة من بعد ما لزمهم من الحجة القاطعة {فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات.

.[سورة آل عمران: آية 95]

{قُلْ صَدَقَ الله فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}.
{قُلْ صَدَقَ الله} تعريض بكذبهم كقوله: {ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ} أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا} وهي ملة الإسلام التي عليها محمد ومن آمن معه، حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم، حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه.

.[سورة آل عمران: الآيات 96- 97]

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)}.
{وُضِعَ لِلنَّاسِ} صفة لبيت، والواضع هو الله عز وجلّ، تدل عليه قراءة من قرأ {وُضِعَ لِلنَّاسِ} بتسمية الفاعل وهو الله. ومعنى وضع الله بيتا للناس، أنه جعله متعبدًا لهم، فكأنه قال:
إن أوّل متعبد للناس الكعبة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أوّل مسجد وضع للناس فقال: «المسجد الحرام، ثم بيت المقدس» وسئل كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة».
وعن علىّ رضى الله عنه أن رجلا قال له: أهو أوّل بيت؟ قال: لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أوّل بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة. وأوّل من بناه إبراهيم ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش.
وعن ابن عباس: هو أوّل بيت حُجَّ بعد الطوفان. وقيل: هو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض، خلقه قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض تحته. وقيل: هو أوّل بيت بناه آدم في الأرض.
وقيل: لما أهبط آدم قالت له الملائكة: طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام، وكان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح، فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات لَلَّذِي بِبَكَّةَ البيت الذي ببكة، وهي علم للبلد الحرام: ومكة وبكة لغتان فيه، نحو قولهم: النبيط والنميط، في اسم موضع بالدهناء: ونحوه من الاعتقاب: أمر راتب وراتم. وحمى مغمطة ومغبطة. وقيل: مكة: البلد، وبكة: موضع المسجد. وقيل: اشتقاقها من «بكه» إذا زحمه لازدحام الناس فيها.
وعن قتادة: يبك الناس بعضهم بعضًا الرجال والنساء، يصلى بعضهم بين يدي بعض، لا يصلح ذلك إلا بمكة كأنها سميت ببكة وهي الزحمة. قال:
إذَا الشَّرِيبُ أَخَذَتْهُ الأَكَّهْ ** فَخَلِّهِ حَتَّي يَبُكَّ بَكَّهْ

وقيل: تبك أعناق الجبابرة أي تدقها. لم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى مُبارَكًا كثير الخير لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب، وانتصابه على الحال من المستكن في الظرف، لأن التقدير للذي ببكة هو، والعامل فيه المقدر في الظرف من فعل الاستقرار {وَهُدىً لِلْعالَمِينَ} لأنه قبلتهم ومتعبدهم مَقامُ إِبْراهِيمَ عطف بيان لقوله: {آياتٌ بَيِّناتٌ}. فإن قلت: كيف صح بيان الجماعة بالواحد؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله ونبوة إبراهيم من تأثير قدمه في حجر صلد، كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً}.
والثاني: اشتماله على آيات لأنّ أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنة آية. ويجوز أن يراد: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، لأنّ الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعاء. ويجوز أن تذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما. دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قبل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، وكثير سواهما. ونحوه في طىِّ الذكر قول جرير:
كَانَتْ حَنِيفَةُ أثْلَاثًا فَثُلْثُهُمُو ** مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا

ومنه قوله عليه السلام: «حبب إلىّ من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وقرة عينى في الصلاة» وقرأ ابن عباس وأبىّ ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة: آية بينة، على التوحيد. وفيها دليل على أنّ مقام إبراهيم واقع وحده عطف بيان. فإن قلت: كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات؟ وقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا} جملة مستأنفة إما ابتدائية وإما شرطية؟ قلت: أجزت ذلك من حيث المعنى، لأن قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا} دلّ على أمن داخله، فكأنه قيل: فيه آيات بينات: مقام إبراهيم، وأمن داخله. ألا ترى أنك لو قلت: فيه آية بينة، من دخله كان آمنا صحّ، لأنه في معنى قولك: فيه آية بينة، أمن من دخله. فإن قلت: كيف كان سبب هذا الأثر؟ قلت: فيه قولان: أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه. وقيل: أنه جاء زائرا من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل: انزل حتى يغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر، فبقى أثر قدميه عليه. ومعنى {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا} معنى قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب.